أدوات الوصول

Skip to main content
المؤسسة الليبية للتقنية
المسؤولية الوطنية في أصعب أحوالها

    المسؤولية الوطنية في أصعب أحوالها

    قد يعتقد بعضهم أن الرسائل الكبيرة تحتاج إلى بيانات مطولة وصياغات رسمية معقدة، لكن تجربتي أثبتت أن أبسط رسالة يمكن أن تحرك المئات، وتؤثر في العشرات، وتصرف بسببها مئات الآلاف. في لحظة فارقة وجدنا أنفسنا أمام حقيقة لا مفر منها: المسؤولية الوطنية في أصعب أحوالها.

    يعلم معظم سكان العاصمة طرابلس ما جرى في 12 و13 مايو 2025، وما أسميها أيّام مايو العصيبة، كانت أيامًا ثقيلة غير مسبوقة في تاريخ المدينة الحديث، فقد توقفت الحياة توقفًا شبه كامل، وتعرضت العاصمة لدمار واسع النطاق. لم يسلم معرض ليبيا بيلد من الانهيار، ولم تنجُ المباني الكبرى من الضربات، فقد أصيب فندق كورنثيا إصابة مباشرة، وتضررت أبراج ذات العماد وغيرها من المباني الحيوية في قلب طرابلس.

    في عصر يوم 13 مايو، جلت جولة ميدانية على رغم الأجواء المتوترة، ثم عدت مساءً للتحقق من مقر المؤسسة الليبية للتقنية وسلامته. كما زرت موقع معرض ليبيا بيلد الذي كان معرضًا على استحياء في شارع عمر المختار، وهو الذي سبق اشتباكات مساء 13 مايو التي خلفت دمارًا واسعًا.

    وفي يوم 15 مايو خرجت في جولة أخرى إلى الشوارع الأكثر تضررًا، وكان المشهد صادمًا: خراب، وحرائق، ودمار، وإحباط يخيم على كل زاوية. كان الحزن يسيطر بصورة كاملة، والشعور العام هو فقدان الأمل.

    بعد هذه الأحداث، اجتمعنا نحن إدارة المؤسسة وأعضاؤها “اجتماع ما بعد الصدمة”، يوم الجمعة 16 مايو 2025، في أحد المقاهي. كان النقاش مشوشًا، والذهول يخيّم على الجميع. لم يكن أحد يفهم أبعاد ما حدث ولا كيف يمكن تجاوزه.

    وجاء يوم الأحد التالي أول يوم عمل في مقر المؤسسة بعد الأزمة. كان الحضور متواضعًا، لكن الأسئلة كانت كبرى:

    · لدينا حدث ضخم اسمه اليوم الوطني لتقنية المعلومات بعد أسبوعين فقط، فهل يمكن إقامته في هذا الوضع؟ هل نؤجل الموعد؟ هل نخاطر بالمضي قدمًا وسط الخوف من تجدد الاشتباكات؟ ماذا لو ألغى فندق كورنثيا الحجوزات؟ ماذا لو انسحب الرعاة؟ ماذا لو فُرض حظر تجوال؟ وهل نلغي طرابلس ونستمر في باقي المدن؟

    أكثر ما رسخ في ذهني كان سؤال أحد الإداريين: “احتمال كبير نخسروا”. وجاء ردي حاسمًا: “نحن لم نؤسس هذه المؤسسة لنربح”.

    لحظة القرار

    كان المشهد قاتمًا. الكساد يسيطر، والذهول يخيم، والنشاط الذي كان أشبه بخلية نحل تحوّل فجأة إلى ركود تام. كانت تجهيزات المدن والاحتفالات والمنتديات في مهب الريح:

    • منتدى حوكمة المعلوماتية
    • ملتقى الأمن السيبراني
    • قمة المطورين
    • وأكثر من 70 موقعًا في مدن ليبيا كان من المفترض أن تشارك في اليوم الوطني لتقنية المعلومات.

    الرسالة التي غيّرت المسار

    في صباح يوم الإثنين 19 مايو 2025، خرجت من منزلي عند التاسعة صباحًا مثقلًا بالمسؤولية. كنت أحتسي القهوة تلو الأخرى وأفكر بعمق: أنا رئيس مجلس الإدارة، المؤسس والمسؤول الأول أمام الداعمين والرعاة والمدن والفريق.

    قررت أن أكتب بيانًا قصيرًا في مجموعة النقاشات العامة للمؤسسة. كنت أظن أن قراء الرسالة سيوقفونني، أو على الأقل سيدعونني للتريث. لكن ما حدث فاق كل التوقعات:

    · تحرك فريق العمل كجيش كامل في ذات اليوم، والشركة المنفذة التي اتفقنا معها على تركيب 10 لافتات طرقية فوجئنا بها تعلق 24 لافتة في شوارع طرابلس بدافع الحماس. وأماكن إقامة الأحداث، وعلى رأسها فندق كورنثيا، فتحت أبوابها على رغم الظروف القاسية، والرعاة صدّقوا الشباب، ودعموا الاستمرار بثقة.

    كانت تلك الرسالة القصيرة الشرارة التي أعادت الروح إلى مشروع وطني كاد أن يسقط تحت ثقل الظروف.

    في كلمتي يوم الحدث 1-6-2025، قلت جملة لا أنساها:

    “هؤلاء شباب لم يحملوا السلاح، بل حملوا أجهزة محمول وأجهزة ذكية، يحتفلون بالتقنية والوعي التقني بليبيا قاطبة”.

    لقد كان قرار الاستمرار في تنظيم الحدث بمثابة استثمار في الأمل، في مواجهة مباشرة مع الإحباط الذي خلفته الأحداث. لم يكن خيارنا سهلًا، لكنه كان الخيار الصحيح المخاطر.

    تجربة مايو 2025 لم تكن مجرد أزمة عابرة، بل كانت منعطفًا تاريخيًا في مسيرة المؤسسة الليبية للتقنية؛ أثبتت أننا قادرون على العمل حتى في أصعب الظروف، وأننا لسنا مجرد مؤسسة تقنية، بل حركة مجتمعية تبني الأمل وتعيد الثقة.

    كانت ثقتي في الفريق غير محدودة، وكانت النتيجة حدثًا وطنيًّا تجاوز كونه احتفالًا تقنيًّا، ليصبح رسالة وطنية بأن ليبيا قادرة على الحياة، حتى في أحلك اللحظات.