مؤسسة التروس الذهبية
في المشهد المتقلب الذي يعيشه العمل المجتمعي في ليبيا، برزت المؤسسة الليبية للتقنية نموذجًا استثنائيًّا في ترابط الفرق وتكامل الجهود، ليس داخل بنيتها فقط، بل مع مختلف أصحاب المصلحة من مؤسسات حكومية وخاصة ومجتمع مدني. لقد استطاعت المؤسسة أن تُحوّل مفاهيم التعاون والعمل الجماعي إلى ممارسات يومية تُنتج أثرًا ملموسًا، وتبني نموذجًا جديدًا للتغيير المعرفي والتقني.
فلسفة الفريق المتكامل
منذ تأسيسها، تبنّت المؤسسة مفهوم الفريق بوصفه كيانًا مترابطًا يعمل كـ”تروس دقيقة” داخل ساعة واحدة. لا يقوم النجاح على شخص أو منصب، بل على تكامل الأدوار: من الإداري إلى التقني، ومن مدير المشاريع إلى مراجع السياسات، ومن المتدرب إلى المستشار القانوني. كل عضو في هذا الفريق يدرك أن مهمته، مهما بدت بسيطة، تُسهم في تشغيل منظومة أعقد مما يُرى على السطح. وتجلّى هذا التوازن في مشاريع متعددة تجاوزت الـ25 مشروعًا نشطًا طوال العام، يديرها طيف من المتخصصين والخبراء الذين باتوا يؤمنون بالقضية أكثر من الإطار الوظيفي.
شراكات تتوسع وتُحدث الأثر
ليس من السهل أن تعمل مؤسسة مجتمع مدني مع أكثر من 90 جهة، في حين أن وزارات وهيئات وشركات ومراكز وجمعيات، موجودة دون أن تكون ثقة متجذّرة وانضباط مؤسسي. هذه الشبكة من العلاقات لم تكن مجرد قائمة شركاء، بل كانت جسورًا حقيقية لتبادل المعرفة، وتطبيق الحلول التقنية، والاستجابة للتحديات الوطنية. من تدخلات إستراتيجية في تسعير خدمات الاتصالات، إلى مشاريع توعية في مجال الأمن السيبراني، وصولًا إلى برامج تأهيل وتدريب في أصعب البيئات، أثبتت المؤسسة أن الشراكات لا تُبنى على العقود فقط، بل على الرصيد المتراكم من المصداقية والثقة بإحراز الإنجاز، ليس الهدف المال أو الإستفادة المباشرة، إنما فائدة المجتمع بكل مستوياته.
من الفكرة إلى الفعل.. ومن الحلم إلى النظام
كان الحلم في بدايته “مؤسسة فكر وضغط من أجل الإصلاح”، ولكن ما تحقق في أربع سنوات مضنية هو “مؤسسة تنفيذ ومأسسة وقدوة وعمل”، إذ انتقلت الأفكار من ملفات مغلقة إلى سياسات ومبادرات فعلية، دعمت أكثر من 32 مؤسسة محلية، وأنتجت عشرات التقارير والمقترحات الفنية، وأسست لأطر إدارية ومالية مفتوحة المصدر تساعد غيرها من الكيانات على الاستدامة. هذا التحول لم يكن صدفة، بل كان نتاج تخطيط مستمر، وثقافة تقييم ذاتي، ومراجعة محاسبية سنوية، ونظام مالي لا يسمح بالتجاوز، وسياسة امتثال ومراجعة داخلية وتدقيق، ومكافحة فساد وتعارض مصالح، ما يدل على حوكمة داخلية نادرة في المشهد المحلي.
الاستدامة تبدأ من الداخل
ربما كان أكبر إنجاز للمؤسسة هو تكوين نظام مقاوم للانهيار، قابل للتكيف، مدعوم بكفاءات متجددة، يوازن بين العمل الميداني والرؤية الإستراتيجية؛ فالتوسع لم يكن هدفًا، بل نتيجة طبيعية لبيئة تؤمن بأن الوعي التقني حق، وأن الاستقرار يبدأ من المعرفة. من تدريب متواصل لفريق العمل والمتطوعين، إلى تطوير مستمر للأنظمة الأمنية والمعلوماتية، ومن ترسيخ مبدإ العمل الجماعي إلى تفعيل ممارسات الحوكمة، باتت المؤسسة اليوم أكثر من مجرد كيان؛ إنها بنية مجتمعية معرفية عابرة للتصنيفات، تضع التقنية في خدمة المجتمع، وتبني الثقة بين المواطن والنظام.
من التحدي إلى التمكين
إن تجربة المؤسسة الليبية للتقنية ليست قصة عن مشاريع فقط، وليست حدثًا يقام سنويًّا ونخلد إلى النوم، بل عن الجيوش ذات الكفاءات الفنية خلف المشاريع، والفريق خلف الإنجازات، والشبكة المعقدة خلف الفكرة. إنها قصة عن كيف يُبنى العمل الجماعي على قاعدة من الأمل، وعن كيف يمكن لمؤسسة واحدة أن تخلق فضاءً جديدًا من الوعي والمعرفة رغم كل العوائق. ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال في هذه المرحلة، أن هذه المؤسسة لم تكن لتبقى وتكبر لولا هذا الترابط المتين بين فرقها، وتلك الثقة التي منحتها إياها الجهات الشريكة، وذاك الإيمان العميق بقضية “الوعي التقني للجميع”.
نحو بيت خبرة محلي وعالمي
فيما تواصل المؤسسة الليبية للتقنية تعزيز حضورها المؤسسي والتقني في الداخل، فإن رؤيتها المستقبلية تتجه نحو آفاق أوسع وأكثر تأثيرًا على المستويين الوطني والدولي، ففي صميم توجهاتها القادمة، تقف المشاركة الفاعلة في البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي، ليس عضوًا أو مساهمًا فحسب ، بل مساهم إستراتيجي في رسم معالم السياسات العامة للذكاء الاصطناعي في ليبيا؛ بحضورها جلسات محلية وأممية، بما يشمل الجوانب التقنية والأخلاقية والقانونية والتطبيقية. المؤسسة تسعى لتكون بيت خبرة تقنيًّا وطنيًّا مستقلًّا، يتمتع بسمعة مهنية تسمح له بأن يكون مرجعًا للمجتمع الليبي في قضايا التحول الرقمي، وأمن البيانات، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وبناء البنية التحتية للمعرفة. وتكمن إحدى مهامها المستقبلية الحيوية في التأثير في صناعة واقع تقني أكثر تطورًا والمساهمة فيه، بتوفير أوراق سياسات محكمة، ومراجعات نقدية للتشريعات، ومقترحات نابعة من أرض الواقع، مدعومة بخبرة تنفيذية حقيقية لا نظرية فقط.
وفي إطار تعزيز العدالة الرقمية، تواصل المؤسسة الضغط من أجل حماية الحقوق الرقمية للمجتمع الليبي، باعتبارها جزءًا من حقوق الإنسان المعاصرة، وهي تعمل على تطوير أدوات تضمن الخصوصية، وتحارب التمييز الرقمي، وتعزز الوصول الحر للمعلومة. ثم إن المؤسسة تأخذ على عاتقها تطوير منتدى حوكمة المعلوماتية، ليكون مظلة سنوية تضم كل أصحاب المصلحة من كل القطاعات: الحكومي، والخاص، والمدني، والأكاديمي، والإعلامي، ليكون المنتدى مساحة مفتوحة للحوار وصناعة القرار والمراجعة التقنية الشاملة.
ومن القضايا الناشئة التي تضعها المؤسسة في صلب أولوياتها أيضًا: قضية سلامة النشء والطفولة في الفضاء الرقمي، لذا فهي تسعى إلى إعداد مناهج توعوية ومهارية تستهدف الأطفال واليافعين وأولياء الأمور، تضمن لهم بيئة رقمية أكثر أمانًا، بعيدًا عن الابتزاز والتنمر والمحتوى المؤذي. وتعدّ هذه البرامج جزءًا من مسؤولية المؤسسة لضمان تنمية رقمية عادلة ومستدامة وشاملة.
الأمل يقودنا، والعمل يؤسسنا
في خضم كل ما تمر به ليبيا من تحديات وتحولات، تظل المؤسسة الليبية للتقنية شاهدًا حيًّا على أن الأمل لا يُصنع في المؤتمرات فقط، أو إطلاق المبادرات على ورق، أو التكريمات، بل يُبنى كل يوم في المكاتب البسيطة، وخلف أجهزة موبايل أو أجهزة محمولة، وفي العقول التي لا تستسلم، التي تعمل على مدار 24 ساعة دون وجود دوام ثابت، وفي الفرق التي تؤمن بأن التقنية ليست ترفًا، بل أداة للنهوض وحقًّا للجميع.
لقد أثبتنا بالمؤسسة، عن طريق مشروعاتها وشراكاتها وترابط فرقها، أن العمل الجماعي المدروس يمكن أن يصنع أثرًا يتجاوز التوقعات، ويصل إلى كل مؤسسة، وفيما تتجه أعين بعضهم إلى الخارج بحثًا عن الحل، تبني المؤسسة الليبية للتقنية نموذجًا داخليًّا قابلًا للتكرار، يستمد شرعيته من الأرض وليس من الفضاء “فضاء السوشيال ميديا”، ويستمد طاقته من قضية نؤمن بها جميعًا: “الوعي التقني للجميع”.
بخطى واثقة، وبعقول متفتحة، وبقلوب مؤمنة بما تفعل، تستعد المؤسسة لمرحلة جديدة من البناء والتأثير والتوسع، تُشكّل فيها بيت خبرة وطنيًّا ودوليًّا، وتدافع عن الحقوق الرقمية، وتصنع حوكمة للمعلوماتية بشراكة الجميع. نحن نستثمر في أملنا، ونحمد الله ونتوكل عليه.